في ليلة باردة في أواخر عام 2015، اجتمع عدد من اللاجئين السوريين الشبان في قلب أكثر مناطق التسوق في إسطنبول ازدحاماً، تخليداً لذكرى 200,000 روحٍ أُزهِقت في بلدهم خلال سنوات الحرب الأربع. رفع هؤلاء الشبان والشابات صور اللاجئين السوريين الغرقى، الذين قضوا في خلال عبورهم المتوسط محاولين الوصول إلى أوروبا، وغنوا ومعاً أغنية يحفظون كلماتها جميعاً عن ظهر قلب؛ أغنيةُ كتبها في لبنان قبل أكثر من ثمانين عاماً الشاعرُ الفلسطيني إبراهيم طوقان.1
عمل طوقان والأخوان فيلفل معاً على مشاريع عدة، من بينها نشيد حول مقاومة المغرب للاستعمار الفرنسي والإسباني.4 كما عمل الأخوان مع كتّاب عرب آخرين، منتجين أناشيد مهيبة ألهمتها مُثُل القومية العربية ومعاداة الاستعمار. لكنْ مع انتشار أغانيهما وازديادها شعبيةً، أصبحا ضحية نجاحهما. إذ لم ترُق للمفوض السامي الفرنسي محاولاتهما لنشر العواطف المعادية للاستعمار، خاصة لأنهما كانا مدرسي موسيقى في حكومة الانتداب الفرنسي. وبأمر من المفوض السامي، أقيلا من منصبيهما، لكنهما أعيدا بعد بضعة سنوات.5
أما بالنسبة للشاعر، فقد جاء وفاته المأساوية مبكراً عام 1941، حين لم يكن يبلغ من العمر سوى 36 سنة، بعد أن استسلم أخيراً للمرض الذي لاحقه طوال حياته، تاركاً وراءه ابنه جعفر، ذي الثلاث سنوات، الذي كتب عنه في ما بعد قائلاً:
"والدي بالنسبة لي شخصية تجريدية، أعرفه من صوره التي تحتل زوايا في منزلي. أعرفه من صوته، من خلال تسجيل قديم له في اذاعة فلسطين... من خلال معرفتي التجريدية لإبراهيم، استطعت أن أكوّن صورة فسيفساية لهذا الرجل، مكونة من حكايات صغيرة."6
درس جعفر في مدرسة في نابلس، هي ذاتها التي درس فيها والده حين كان طفلاً، ثم درّس فيها بعد تخرجه من الجامعة. في كل صباح مدرسي، كان جعفر يصطف مع غيره من الأطفال ليغنوا موطني؛ كلمات أبيه الراحل.7 وظلّت موطني نشيداً وطنياً غير رسمي لفلسطين منذ الثلاثينيات حتى عام 1972، حين اعتمدت منظمة التحرير الفلسطينية أغنية فدائي نشيداً وطنياً رسمياً بدلاً عنها. لكن ظلّت موطني تُغنى حتى اليوم في فلسطين والشتات وفي العالم العربي عامة. كما أصبحت النشيد الوطني للعراق، الذي يغنيه العراقيون في المظاهرات المعارضة للحكومة، لا في الفعاليات الرسمية فحسب.
بات موطني نشيداً يسمو فوق الحدود القُطرية، فقد كُتب في لبنان لفلسطين وغُنّي من إسطنبول إلى الجزائر؛ نشيداً مناهضاً للاستعمار كتب موسيقاه ملحنان وظّفتهما سلطات الاستعمار الفرنسي. قصة موطني مليئة بالتناقضات، تماماً كما هي قصة المنطقة العربية الحديثة نفسها، التي مزّقها الاستعمار والعنف، وما زالت تتطلع لنشيد يلهم حلمها بمستقبل أفضل.